-->
الصياد الاخباري الصياد الاخباري
recent

آخر الأخبار

recent
random
جاري التحميل ...
random

الخصاونة يكتب ... الأردن بين بيروقراطية التخبط وغياب الإرادة .

  



بقلم : ا.د احمد منصور الخصاونة

وكالة الصياد الاخباري - عمان - يعيش الأردن اليوم أزمة إدارية عميقة، تتغلغل في أوصال مؤسساته وتُقوِّض فاعليتها من الجذور. بيروقراطية متصلّبة تخنق كل فكرة واعدة، وتوأد كل رؤية طموحة في مهدها، حتى بات الابتكار عبئًا، والمبادرة مخاطرة. في دهاليز الإدارة العامة، تتصادم الصلاحيات وتضيع الحدود بين المسؤوليات، فتغيب التنسيقات، ويغيب معها الإنجاز، ويعلو صوت الفوضى على صوت التخطيط.


ولسنا بحاجة لإعادة اجترار رواية "نقص التمويل"، فالعجز الحقيقي لم يكن يومًا في الموارد، بل في كيفية إدارتها، وفي غياب القيادات التي تملك الشجاعة لتحويل الرؤية إلى واقع، والخطة إلى منجز. لدينا من العقول ما يكفي، ولكننا نفتقر إلى من يُحسن توظيفها؛ ولدينا من الخطط ما يغني، ولكننا نهدرها في متاهات البيروقراطية، والازدواجية، والتردد. إنها أزمة إدارة قبل أن تكون أزمة اقتصاد، وأزمة إرادة قبل أن تكون أزمة إمكانيات. وما لم نواجه هذا الخلل البنيوي بشجاعة وصدق، فسنظل نعيد إنتاج الإخفاق ذاته، مهما تبدلت الشعارات وتغيّرت العناوين.


ما نشهده في مؤسسات الدولة وشركاتها ليس استثناءً عابرًا، بل هو انعكاس صريح لعطب إداري تراكم عبر السنوات. مشاريع تُطرح بحماسة إعلامية طاغية، ثم لا تلبث أن تتفتّت وتتبعثر على طاولات الاجتماعات، حتى تفقد معناها وتُطوى في أدراج النسيان. وبدلًا من الاعتراف بالفشل ومراجعة الأداء، نلجأ إلى خطاب مكرور يُلقي اللوم على "نقص التمويل"، أو على مبررات واهية، لا يقتنع بها إلا من يُجيد فنّ التبرير أكثر من فنّ التغيير.


لقد استبشرنا حين أُعلن عن إنشاء وزارات وهيئات تُعنى بالرقابة والإشراف، وظننا أن عهد التراخي قد ولّى، لكن سرعان ما تبيّن أن هذه الجهات تفتقر، هي الأخرى، إلى الهيكلة، والرؤية، والفعالية، فكأنها خُلقت لتكون جزءًا من المشكلة لا جزءًا من الحل. ففاقد الشيء لا يُعطيه، والرقابة الصورية لا تردع خللاً، ولا تُقيم إصلاحًا.


إن جوهر الأزمة لا يكمن في التفاصيل الإدارية فحسب، بل في غياب مركز وطني قوي للتخطيط الاستراتيجي، يربط الرؤية بالتنفيذ، ويوحّد القرار التنموي ضمن إطار وطني جامع، بعيدًا عن التجاذبات السياسية، والمحاصصات الضيقة، والولاءات الشخصية التي مزّقت جسد الدولة إلى جزر معزولة. لسنا بحاجة إلى مركزية تُكبّل، بل إلى مركزية تنسيقية عقلانية، تقود المشهد كما يقود قائد الأوركسترا فرقته؛ بمهارة تضبط الإيقاع، وتُوحّد اللحن نحو وطن واحد، وهدف مشترك.
نطمح إلى نموذج إداري رشيق في بنيته، عميق في أثره، يُخطّط من المركز برؤية استراتيجية واضحة، ويُنفّذ بمرونة ميدانية ذكية، تحت مظلة رقابة فاعلة تُكرّس الكفاءة وتُحاسب على التقصير لا على الولاء. نحتاج إلى مركزية تخطيط راشدة، تُكملها لامركزية تنفيذ واعية. تلك هي المعادلة الغائبة، وذلك هو التوازن الذي طال انتظاره.


نحن في الأردن نُتقن التحضير، ونتفنّن في تنظيم الورش والمؤتمرات وصياغة الاستراتيجيات، لكننا نُشبه الصياد الذي يُتقن تجهيز قاربه مع الفجر، يعدّ العدّة ويحمل الشباك، ويُبحر بأمل وفير، لكنه يعود عند المغيب خالي الوفاض؛ لا لأنه لم يتحرك، بل لأنه تحرّك بلا بوصلة، وبلا فهم لطبيعة البحر ومواسمه، ولا وعي برياح التغيير التي لا ترحم من لا يُحسن قراءة اتجاهها.


أما المشهد الأكثر إيلامًا، فهو حين يعتلي المنابر من لبس عباءة الوطنية زيفًا، وتسلّق سلّم المناصب بالصفقات لا بالكفاءات، وحُمل إلى المواقع التي لا يستحقها على أكتاف الولاءات لا على سُلّم الإنجاز. يتحدث باسم الوطن من لا يعرف من تاريخه إلا ما يخدم مصالحه، ويُنظّر في السياسة من لا يمتّ للفكر السياسي بصلة، سوى باب التكسّب والمصالح الضيقة. والأسوأ أن مثل هؤلاء لا يجدون فقط من يُصفّق لهم، بل من يُجمّل صورتهم ويصنع لهم الهالة الزائفة، كأننا فقدنا البوصلة، وفقدنا معها القدرة على التمييز بين من يخدم الوطن بإخلاص، ومن يتاجر به عند كل مفترق.


الخلل في اختيار القيادات لم يكن يومًا مؤامرة تُحاك في الغرف المظلمة، ولا خطة أجنبية لتقويض النهوض. لم يُجبرنا أحد على الغش أو الفوضى أو الكسل. عدونا الحقيقي لا يسكن خلف الحدود فحسب، بل يسكن بيننا، وأحيانًا فينا، في ذلك الصوت الخافت الذي يهمس في دواخلنا بأن التغيير مستحيل، وأننا محكومون بواقع لا يتزحزح. لكنه صوت كاذب، يُخدّر العزائم ويُبرّر العجز.


شعوب وصلت إلى الفضاء، وسخّرت الذكاء الاصطناعي لنهضتها، لم تفعل ذلك بالتبرير، بل بالإرادة، والعمل، والانضباط. شعوب آمنت أن طريق المستقبل يبدأ من شجاعة المواجهة، لا من دفاتر الأعذار. أما نحن، فما زلنا نُعاني من عجزٍ مزمن في تعبيد شارع يدوم لأشهر دون حفر، أو في تنظيم مرور يخلو من الفوضى، أو في تنظيف رصيف لا يتحوّل إلى مكبّ عشوائي. مفارقة موجعة تكشف أن أزمتنا لم تكن يومًا أزمة موارد، بل أزمة إرادة، وضمير، واختيارات.


تخيّلوا لو امتلكنا شركات بحجم "آبل" أو "تيسلا"، أو مشاريع تنموية بحجم ما تشهده الإمارات أو السعودية. هل كنّا سنفرّط كما نفعل اليوم؟ هل كنا سنقتل الفكرة في مهدها، ونحاصر كل مبدع بروتين قاتل؟ لدينا ناطحات سحاب معلّقة منذ سنوات، ولدينا عقول فذّة لم تجد بيئة تحفّزها، أو إدارة تؤمن بها، أو مناخًا يتّسع لطموحاتها.


نحن لا نحتاج إلى معجزات، بل إلى قرار وطني شجاع يعترف بأن المشكلة فينا، وأن التغيير لن يُهدى إلينا من الخارج، بل يُصنع هنا؛ في وعينا، وإدارتنا، وجرأتنا على مراجعة الذات. آن الأوان أن نتوقف عن اجترار المظلومية، وأن ننظر في المرآة بشجاعة. آن لنا أن نُعيد تشخيص أزمتنا، لا بعيون العتب، بل بعقول تبحث عن الحل. يكفينا أن نقول: "نحن السبب"، لندرك أننا بدأنا أولى خطوات الإصلاح الحقيقي.


لقد علّمنا التاريخ أن للنجاح آباءً كُثر، بينما الفشل يتيم، الكل يتنصّل من تبعاته. أما نحن، فمتى نعترف بأننا المسؤولون؟ إن استمررنا في المسار ذاته، فسنظل نعيد إنتاج أزمتنا، أما إن امتلكنا الجرأة لنقول: كفى، فقد نكون قد أطلقنا أول رصاصة إصلاح في معركة استعادة الدولة من بين أنياب الفوضى والعجز والتسويف.


عن محرر الخبر

الصياد الاخباري

التعليقات



إذا أعجبك محتوى موقع الصياد الاخباري نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الاخبار العالمية والمحلية والعربية أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

الصياد الاخباري

الصياد الاخباري موقع متخصص بنشر الأخبار دون أي تحيز

احصاءات الموقع الشهرية

جميع الحقوق محفوظة لموقع وكالة الصياد الاخبارية تطوير مؤسسة إربد للخدمات التقنية 00962788311431

الصياد الاخباري