الصياد الاخباري
بقلم : حاتم الازرعي
اعترف بداية انني لم اسمع بمصطلح "الكبسولة الزمنية" الا اخيرا ، بعد السخرية التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي عقب استخدام مدير دائرة الآثار العامة لهذا المصطلح خلال المؤتمر الصحفي للاعلان عن الاكتشاف الاثري في الجفر الذي يعود إلى ( ٩ ) آلاف عام ، وهو بطبيعة الحال على درجة كبيرة من الأهمية.
وقد دفعتني السخرية التي انتشرت كالنار في الهشيم، للاستعانة بمحرك البحث الرائع (جوجل ) ، لفهم المصطلح واي معلومات يقدمها مشكورا حوله.
وفي رحلة البحث ، وجدت ان "الكبسولة الزمنية " مصطلح رائج في علم الآثار والانثروبولوجيا ويعني "صندوقاً يُخَزّن ليُفتَح في المستقبل، والهدف أن يرى بَشر المستقبل الأشياء التي نستخدمها في حياتنا "،
وهو تعبير مجازي ، وقد تكون هذه الكبسولة غير مقصوده كما في حالة "اكتشاف الجفر " أو مقصوده كما في المفهوم المعاصر الواعي .
ويشير الرفيق (جوجل) الى ان من اوائل الكبسولات المقصودة تلك التي أعدّتها شركة وستنغهاوس في عام 1939م، واحتوت على أشياء من ذلك الزمان مثل بكرة خياطة ودمية ومحاصيل غذائية ومجهر، إضافة إلى ميكروفيلم يضم معجماً وتقويماً ونصوصاً أخرى. وهي مدفونة 15 متراً أسفل الأرض في نيويورك، وستظل مدفونة إلى موعد فتحها، وذلك بعد 5 آلاف سنة في العام 6939م!
والحديث حول الكبسولة الزمنية وما رافقها من تعليقات ساخرة أثار زوبعة من الخواطر التي حاصرتني وطاردتني كلما حاولت الأفلات من بين انيابها ، خشية ان أفسد فرحة الاكتشاف ، التي بدت غامرة على وجوه المكتشفين والمسؤولين الرسميين، وهم يزفون في مؤتمر صحفي نبأ الاكتشاف ، ولم افلح في الافلات، واستسلمت للخواطر ، وفرضت عليً سطوتها.
وفكرت مليا ، لماذا لا نعد كبسولة زمنية خاصة بالاثار للأجيال القادمة ليتعرفوا على اجدادهم في هذا الموضوع الحيوي ؟ وتملكتني الحيرة ، ماذا عساي اخزن في صندوقها ؟ ولأي جيل احدد زمان فتحها ؟ واحترت اكثر اين أُخفيها ؟ وتساءلت كيف سيستقبلونها؟ وماذا سيقولون عن اجدادهم ؟ وفي كل الأحوال يقيني ان الكبسولة ستضيق ذرعا بمحتوياتها ، وتئن وجعا يشقق الجبال ويمزق الروح ، لكنها الحقيقة تفرض نفسها .
وفي كبسولة الحاضر لزمن قادم سأخزن صورا من واقع مرير وحزن عميق على كبسولة زمنية قيمة اكتشفت في تاريخ فريد (٢٢ ‐ ٢ ‐ ٢٠٢٢) وخوفي ان تدخل قائمة الآثار المهملة المنسية المخطوفة لتعيش في غربة عن وطنها الام ، كما كبسولات زمنية لا تقل أهمية لا بل إنها اكثر أهمية وقيمة حضارية.
وسأحمل الكبسولة امانة أن تفتح عيون من سيرثون فشلنا في الحفاظ على آثارنا من الاجيال القادمة على المواقع الأثرية المسجلة رسميا والبالغة (١٥) ألف موقع من أصل مائة ألف حتى لا تضيع ، وانوه الى عدد القطع الأثرية المسجلة ( ٢٠٠) ألف قطعة، منها ( ٢٠٠٠) فقط معروض في المتاحف، عل وعسى يعرضون المتبقي ولا يضيع ، وأن هناك حوالي ( ٢٨٧٧) موقع تراثي متضرر ، نأمل ان يعملوا على تأهيلها لتعود الى الحياة.
وفي كبسولة الزمن الراهن للزمن القادم ، ولاجيال المستقبل ، سنضع قائمة بالآثار التي هربت عسى أن ينجحوا في إستردادها بعد أن فشلنا ، وإن كان لا يوجد لدينا توثيق واضح وإحصاء بأعدادها وأماكن وجودها، فنحن نعرف على الاقل اشهرها ، وتقبع ذليلة بعيدا عن حضن اهلها الأصليين في المتاحف الألمانية والفرنسية والبريطانية والاسترالية والكندية والأميركية ، وكذلك بين ايدي تجار الآثار وسماسرتها ، وفي متناول يد العابثين والمخربين والساعين لتدمير وتشويه كل شيء جميل في حياتنا .
وفي الكبسولة الزمنية سنكتب : " اعدنا طمر كبسولات زمنية بالمعنى الحرفي والمجازي لعدم توفر المخصصات المالية في موازنة الدولة للاهتمام بها ورعايتها لتصل زمنكم حية ، احتفلوا امام الكاميرات بإعادة اكتشافها، لكن لا تفعلوا كما فعل مسؤولو زماننا وتتركوها بعد مراسم الاحتفال المهيب عرضة للطمر والإهمال والتخريب والنهب ".
وسنكتب على جدار الكبسولة وبالاحمر العريض : " ايها المار من هنا ادعو لنا بالرحمة والمغفرة ، فقد غُلبنا على أمرنا وفَرطنا بالتاريخ وعشنا على هامش الحضارة ولم نركب قطارها السريع ، واكتفينا بالباص " الصريع " فتخلفنا وتخلينا عن الركب " .
