بقلم : سارة طالب السهيل
وكالة الصياد الاخباري - عمان - في العاشر من ديسمبر من كل عام، يتوقف العالم قليلًا عن هرولته اللاهثة، ويضع يده على صدره ليصغي إلى دقات قلب الإنسان… تلك الدقات التي تذكّرنا بأن قيمة الوجود لا تُقاس بالإنجازات التقنية ولا المكاسب السياسية، بل بقدرتنا على احترام البشر بوصفهم غاية لا وسيلة.
هذا اليوم ليس مناسبة عابرة، بل لحظة مواجهة يسأل فيها الإنسان نفسه: هل ظللنا أوفياء لروح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟ أم أننا ما زلنا نكرر الأخطاء نفسها بثياب جديدة؟
وكلما تقدم العالم خطوة نحو المعرفة، ازدادت أسئلة العدالة تعقيدًا، وازداد احتياجنا إلى لحظة نتذكر فيها معنى أن نكون بشرًا لا أدوات اقتصاد ولا مشاريع سلطة.
نحتاج يومًا لحقوق الإنسان؛ لأن ذاكرتنا سريعة النسيان، ولأن أوجاع العالم لا تنتهي سريعًا.
فهذا اليوم لم يولد للاحتفال… بل للمساءلة. للتذكير بأن جراح الحروب لم تُشفَ، وأن الظلم ما زال يجد لنفسه مكانًا في زوايا الأرض، رغم كل ضوءٍ تُشعله المعرفة.
تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن واحدًا من كل خمسة أشخاص يتعرض لشكل من أشكال التمييز خلال حياته، وأن واحدًا من كل عشرة أطفال يعيش في مناطق نزاع.
هذه الأرقام ليست بيانات، بل نهايات مبكرة لحيوات لم تأخذ حقها في البداية.
وتشير اليونيسف إلى أن أكثر من 330 مليون طفل يعيشون في فقر مدقع، لا غذاء كافيًا، ولا تعليمًا، ولا ماءً نظيفًا.
هؤلاء الأطفال هم “ملامح الحقوق الضائعة” التي تجعل يوم حقوق الإنسان ضرورة لا خيارًا.
وتبقى الحقائق في منطقتنا أشد صراحة مهما حاولت اللغة تجميلها.
14 مليون طفل عربي خارج المدارس.
44 مليون عربي تحت خط الفقر.
ملايين اللاجئين في فلسطين وسوريا واليمن وليبيا.
من دون مواجهة هذه الحقائق، لن يحمل هذا اليوم معنى يتجاوز الشعارات.
يوم حقوق الإنسان يخصّنا جميعًا، لأن كل إنسان شعر يومًا بظلمٍ ما، مهما بدا بسيطًا.
وربما لذلك يتفاعل الناس مع هذا اليوم، لأنه يلامس الجذر الأول لكل ألم ولكل نجاة.
وما معنى أن تُولد بكرامة كاملة، ثم تُنتزع منك حقوقك واحدة تلو الأخرى؛ لأنك تنتمي إلى مجتمعٍ ما أو طبقة ما أو جنسٍ ما؟
وما معنى أن تُحرم من صوتك؟
أو من حقك في التعليم؟
أو من فرصة أن تعيش حياة تشبه أحلامك، لا أحكام الآخرين عليك؟
لطالما شعرتُ وأنا أكتب أن الإنسان يشبه شمعة تضيء حتى وهي تحترق، وأن حقوقه ليست قوانين جامدة، بل نبض يتألم إذا انطفأت العدالة.
في هذا اليوم يتحدث الطفل المشرد، والمرأة التي وئد صوتها، والعامل الذي يقف تحت الشمس، والسجين الذي لم يرَ السماء منذ عقود، واللاجئ الذي يحمل وطنه على ظهره، والمواطن الذي يبحث عن كرامة قبل أن يبحث عن خبز.
ومن التجارب العالمية التي أثبتت أن العدالة فعل لا شعار، يعلو صوت مانديلا الذي حول السجن مدرسة للتسامح، وروزا باركس التي غيرت التاريخ من مقعد في حافلة، وملالا التي قالت للعالم إن تعليم الفتيات ضرورة لا ترفًا، وأليفي فيزل الذي كتب كي لا يُنسى الألم الإنساني.
وفي عالمنا العربي، لا يقل الوجدان حضورًا ولا المقاومة جمالًا.
كتب نجيب محفوظ عن الإنسان الذي يواجه الظلم، ويصرّ على الحياة.
وجعل أحمد مطر القصيدة سلطة في مواجهة القهر.
ودافعت نازك الملائكة وفدوى طوقان عن حق المرأة في الصوت.
وكتب جبران خليل جبران عن حرية الروح وكرامة الإنسان.
ومن العراق، يتقدم علي الوردي بصوته النقدي الشجاع، محذرًا من ظلم البُنى الاجتماعية والدينية والتقليدية التي تقيد حرية الفرد وحقه في الاختلاف.
ويرتفع صوت مظفر النواب ثائرًا على القمع، رافعًا القصيدة إلى مقام المحكمة الأخلاقية التي تحاسب الظلم بلا خوف.
ومن الأردن، يعلو صوت مصطفى وهبي التل (عرار)، شاعر الحرية والتمرّد، الذي جعل من كرامة الإنسان قضيتَه الأولى، ومن الشعر مساحة للدفاع عن الإنسان ضد كل أشكال القهر.
وتزداد الصورة ثراءً حين نطلّ على التجارب العربية المعاصرة.
في العراق، تتقدم مبادرات حماية التراث الإنساني وتمكين المرأة ودعم ضحايا النزوح والحروب.
في مصر، تظهر جهود قوية لمحاربة الاتجار بالبشر، ودعم ذوي الإعاقة، ومكافحة التسرب المدرسي عبر برامج تعليمية واسعة.
في الأردن، تتجلى تجربة رائدة في حماية اللاجئين وتطوير التشريعات وتمكين المرأة ورعاية الأطفال والوعي المجتمعي .
في السعودية، تتقدم إصلاحات تشريعية في الحماية الاجتماعية وتمكين المرأة وسنّ قوانين ضد العنف الأسري.
في المغرب، تتقدم إصلاحات مهمة في دعم الفتيات والتعليم ومحاربة العنف.
في تونس، تستمر التجربة الرائدة في مجال حقوق المرأة والحرية النقابية رغم التحديات.
وفي الإمارات، برزت تشريعات لحماية الطفل وتمكين أصحاب الهمم، وبرامج واسعة ترفع جودة التعليم والصحة والعمل.
ويبقى اليمن جرحًا مفتوحًا: أطفال بلا مدارس، نساء بلا أمان، عائلات بلا غذاء، وذاكرة تُقتلع كل يوم من جذورها.
فالأدب يشهد حين يسقط الصمت.
كم رواية كشفت ظلمًا لم تتجرأ التقارير الرسمية على ذكره؟
وكم قصيدة أبقت قضية على قيد الحياة؟
الأدب دفتر الحقوق غير المكتوب، والقلم شاهد حين يغيب الشهود.
وإذا كان الأدب صوت الروح، فالإعلام صوت الواقع… يوثق ما يخشاه الظالم.
إن صور غزة، ووجوه اللاجئين، ومشاهد الأطفال في النزاعات، جميعها تحولت إلى ضمير عالمي جديد.
فالإعلام يصنع الوعي، ويواجه التضليل، ويصبح خط الدفاع الأول عن الحقيقة، حين ترتدي الأكاذيب ثوب الصدق.
ورغم قسوة المرحلة، يبقى الأمل موجودًا.
فالحقوق لا تتحقق دفعة واحدة… بل تتحقق بالوعي، وبالإصرار، وبصوت الإنسان الذي يرفض أن يصمت.
يذكّرنا هذا اليوم بأن الصمت هو أول أبواب الظلم، وأن العدالة ليست رفاهية، وأن الكرامة ليست خيارًا، وأن مستقبل العالم يبدأ من جملة واحدة:
“كل إنسان يستحق أن يُعامل كإنسان.”
وفي الختام، أسأل الإنسان ذاته.
هل بقي في قلبك مكان للآخر؟
هل تسمع أنين الأم التي فقدت طفلها؟
هل ترى العامل الذي ينحني فوق رزقه؟
هل تشعر بوجع اللاجئ الذي فقد البيت واللغة والذاكرة؟
يوم حقوق الإنسان ليس ذكرى، بل نداء فلا تجعلوا العالم قاسيًا أكثر مما هو أعيدوا للإنسان حقه، وللعدالة روحها، وللضمير مكانه.
فالكرامة ليست وثيقة أو قانوناً يُوَقَّع عليه ولا ينفذ، بل عطر الإنسان حين يعيش حرًا.
الرأي

